هداية الحيارى مدقق
للحافظ ابن القيم ( رحمه الله )
**********************************************
خطبة الكتاب
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام ديناً ، ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً ،
وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً ، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده
أجراً جسيماً ، وذخر لمن وافاه به ثوابا جزيلا وفوزاً عظيماً ، وفرض علينا الانقياد
له ولأحكامه ، والتمسك بدعأئمة وأركانه ، والاعتصام بعراه وأسبابه . ( ص 3 )
فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه ، فبه اهتدى المهتدون
وإليه دعا الأنبياء والمرسلون ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض
طوعا وكرها وإليه يرجعون ) ، فلا يقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين ، ( ومن
يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) شهد بأنه دينه قبل
شهادة الأنام ، وأشاد به ورفع ذكره وسمى به وما اشتملت عليه الأرحام ، فقال تعالى :
( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو
العزيز الحكيم إن الدين عند لله الإسلام ) ، وجعل أهله هم الشهداء على الناس يوم يقوم
الأشهاد ، لما فضلهم به من الإصابة في القول والعمل والهدى والنية والاعتقاد ، إذ
كانوا أحق بذلك وأهله في سابق التقدير ، فقال :
( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ملة أبيكم
إبراهيم ، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا
شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى
ونعم النصير ) .
وحكم سبحانه بأنه أحسن الأديان ، ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قيلاً فقال : ( ومن
أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم
خليلا ) .
وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عباده
الرحمن ، والعمل بما يحبه ويرضاه مع الإخلاص في السر والإعلان ، ومعاملة خلقه بما أمر
به من العدل والإحسان ، مع إيثار طاعته على طاعة الشيطان ، وبين دين أسس بنيانه على
شفا جرف هار فانهار بصاحبه في النار ، أسس على عبادة النيران ، وعقد الشركة بين
الرحمن والشيطان ، وبينه وبين الأوثان ، أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور
المدهونة في السقوف والحيطان ، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى ،
وأقام هناك مدة من الزمان ، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان ، ثم
خرج صبياً رضيعاً يشب شيئاً فشيئاً ويبكي ويأكل ويشرب ، ويبول وينام ، ويتقلب مع
الصبيان .
ثم ( ص 4 ) أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان ، هذا وقد قطعت
منه القلفة حين الختان ، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان .
ثم قبضوا عليه ، وأحلوه أصناف الذل والهوان ، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجا من أقبح
التيجان ، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان ، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً
مبصوقاً في وجهه ، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان .
ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان ، ثم شدت بالحبال يداه مع
الرجلان ، ثم خالطهما تلك المسامير التي تكسر العظام وتمزق اللحمان ، وهو يستغيث : يا
قوم ارحموني! فلا يرحمه منهم إنسان .
هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في
شأن .
ثم مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوان ، ثم قام من القبر وصعد إلى عرشه
وملكه بعد أن كان ما كان ، فما ظنك بفروع هذا أصلها الذي قام عليه البنيان ، أو دين
أسس بنيانه على عبادة الإله المنحوت بالأيدي بعد نحت الأفكار من سائر أجناس الأرض ،
على اختلاف الأنواع والأصناف والألوان ، والخضوع له والتذلل والخرور سجودا على
الأذقان ، لا يؤمن من يدين به بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه يوم
يجزى المسيء بإساءته والمحسن بالإحسان .
أو دين اليهود . . . الذين . . . فارقوا أحكام التوراة ونبذوها وراء ظهورهم واشتروا بها
من الأثمان ، فترحل عنهم التوفيق وقارنهم الخذلان واستبدلوا بولاية الله وملائكته
ورسله وأوليائه ولاية الشيطان .
أو دين أسس بنيانه على أن رب العالمين وجود مطلق في الأذهان ، لا حقيقة له في
الأعيان ، ليس بداخل في العالم ولا خارج عنه ، ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا محايث
ولا مباين له ، لا يسمع ، ولا يرى ، ولا يعلم شيئاً من الموجودات ولا يفعل ما يشاء ، لا
حياة له ، ولا قدرة ، ولا إرادة ، ولا اختيار ، ولم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ؛
بل لم تزل السماوات والأرض معه وجودها مقارن لوجوده ، لم يحدثها بعد عدمها ولا له
قدرة على إفنائها بعد وجودها ، ما أنزل على بشر كتاباً ، ولا أرسل إلى الناس رسولاً .
فلا شرع يتبع ، ولا رسول يطاع ، ولا دار بعد هذه الدار ، ولا مبدأ للعالم ولا معاد ،
ولا بعث ، ولا نشور ، ولا جنة ، ولا نار ، إن هي إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول ، وأربعة
أركان وأفلاك تدور ، ونجوم تسير ، وأرحام تدفع ، وأرض تبلع ، و ( ما هي إلا حياتنا
الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ضد له ، ولا ند له ، ولا صاحبة له ، ( ص
5 ) ولا ولد له ، ولا كفؤ له ، تعالى عن إفك المبطلين ، وخرص الكاذبين ، وتقدس عن شرك
المشركين ، وأباطيل الملحدين .
كذب العادلون به سواه ، وضلوا ضلالا بعيدا ، وخسروا خسرانا مبيناً ( ما اتخذ الله من
ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض سبحان الله
عما يصفون . عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ) .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته ، وأمينه على وحيه ،
وسفيره بينه وبين عباده ، ابتعثه بخير ملة وأحسن شرعة ، وأظهر دلالة وأوضح حجة ، وأبين
برهان إلى جميع العالمين أنسهم وجنهم ، عربهم وعجمهم ، حاضرهم وباديهم ، الذي بشرت به
الكتب السالفة ، وأخبرت به الرسل الماضية ، وجرى ذكره في الأعصار في القرى والأمصار
والأمم الخالية ، ضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر ، إلى عهد المسيح ابن
البشر .
كلما قام رسول أخذ عليه الميثاق بالإيمان به والبشارة بنبوته حتى انتهت النبوة إلى
كليم الرحمن : موسى بن عمران ، فأذن بنبوته على رؤوس الأشهاد بين بني إسرائيل معلنا
بالأذان :
( ( جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران ) ) إلى أن ظهر
المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم فأذن بنبوته
أذاناً لم يؤذنه أحد مثله قبله ، فقام في بني إسرائيل مقام الصادق الناصح ، وكانوا لا
يحبون الناصحين فقال : ( إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا
برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) .
تالله لقد إذن المسيح أذاناً أسمعه البادي والحاضر ، فأجابه المؤمن المصدق وقامت حجة
الله على الجاحد الكافر ، الله أكبر الله أكبر عما يقول : فيه المبطلون ويصفه به
الكاذبون ، وينسبه إليه المفترون والجاحدون ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له ، ولا ند له ، ولا كفؤ له ، ولا صاحبة له ، ولا ولد له ، بل هو الأحد الصمد
الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد .
ثم رفع صوته بالشهادة لأخيه ، وأولى الناس بأنه عبد الله ورسوله ، وأنه أركون العالم ،
وأنه روح الحق لا يتكلم من قبل نفسه ، إنما يقول : ما يقال له وأنه يخبر الناس بكل ما
أعد الله لهم ، ويسوسهم بالحق ، ويخبرهم بالغيوب ، ويجيئهم بالتأويل ، ويوبخ العالم على
الخطيئة ، ويخلصهم من يد الشيطان ، وتستمر شريعته وسلطانه إلى آخر الدهر . وصرح في
أذانه باسمه ونعته وسيرته حتى كأنهم ينظرون إليه عيانا .
ثم قال : حي على الصلاة خلف إمام المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين ، حي على الفلاح
باتباع من السعادة في اتباعه ، والفلاح في الدخول في زمرة أشياعه ، فأذن ، وأقام ،
وتولى ، وقال : ( ( لست أدعكم كالأيتام ، وسأعود وأصلي وراء هذا الإمام ، هذا عهدي إليكم
إن حفظتموه دام لكم الملك إلى آخر الأيام ) ) ، فصلى الله عليه من ناصح بشر برسالة
أخيه ( ص 6 ) عليهما أفضل الصلاة والسلام .
وصدق به أخوه ونزهه عما قال : فيه وفي أمه أعداؤه المغضوب عليهم من الإفك والباطل
وزور الكلام ، كما نزه ربه وخالقه ومرسله عما قال : فيه النصارى ، ونسبوه إليه من النقض
والعيب والذم .
فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره جعل الإسلام
عصمة لمن لجأ إليه ، وجنة لمن استمسك به وعض بالنواجذ عليه ، فهو حرمه الذي من دخله
كان من الآمنين ، وحصنه الذي من لجأ إليه كان من الفائزين ومن انقطع دونه كان من
الهالكين ، وأبى أن يقبل من أحد دينا سواه ، ولو بذل في المسير إليه جهده واستفرغ
قواه ، فأظهره على الدين كله حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها ، وسار مسير الشمس في
الأقطار ، وبلغ إلى حيث انتهى الليل والنهار .
وعلت الدعوة الإسلامية ، وارتفعت غاية الارتفاع والاعتلاء ، بحيث صار أصلها ثابت
وفرعها في السماء فتضاءلت لها جميع الأديان ، وجرت تحتها الأمم منقادة بالخضوع والذل
والإذعان ، ونادى المنادي بشعارها في جو السماء بين الخافقين : أشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صارخا بالشهادتين ، حتى بطلت دعوة
الشيطان ، وتلاشت عبادة الأوثان ، واضمحلت عبادة النيران ، وذل المثلثة عباد الصلبان .
وتقطعت اليهود . . . في الأرض كتقطع السراب في القيعان ، وصارت كلمة الإسلام العليا ،
وصار له في القلوب الخلائق المثل الأعلى ، وقامت براهينه وحججه على سائر الأمم في
الآخرة والأولى ، وبلغت منزلته في العلا والرفعة الغاية القصوى ، وأقام لدولته
ومصطفيه أعوانا وأنصارا نشروا ألويته وأعلامه ، وحفظوا من التغيير والتبديل حدوده
وأحكامه ، وبلغوا إلى نظائرهم كما بلغ إليهم من قبلهم ، حلاله وحرامه ، فعظموا شعائره ،
وعلموا شرائعه ، وجاهدوا أعدائه بالحجة والبيان حتى ( استغلظ واستوى على سوقه يعجب
الزراع ليغيظ بهم الكفار ) وعلا بنيانه المؤسس على تقوى من الله ورضوان إذ كان بناء
غير مؤسسا على شفا جرف هار .
فتبارك الذي رفع منزلته وأعلى ملكته وفخم شأنه وأشاد بنيانه وأذل مخالفيه ومعانديه ،
وكبت من يبغضه ويعاديه ، ووسمهم بأنهم شر الدواب ، وأعد لهم إذا قدموا عليه أليم
العقاب ، وحكم لهم بأنهم أضل سبيلاً من الأنعام ، إذ استبدلوا الشرك بالتوحيد ،
والضلال بالهدى ، والكفر بالإسلام ، وحكم سبحانه لعلماء الكفر وعباده حكما يشهد ذووا